الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله (باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت) أما الحلف باللات والعزى فذكر في حديث الباب وقد تقدم تفسيره في تفسير سورة النجم، وأما الطواغيت فوقع في حديث أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق هشام بن حسان عن الحسن البصري عن عبد الرحمن بن سمرة مرفوعا " لا تحلفوا بالطواغيت ولا بآبائكم " وفي رواية مسلم وابن ماجه " بالطواغي " وهو جمع طاغية والمراد الصنم، ومنه الحديث الآخر " طاغية دوس " أي صنمهم، سمى باسم المصدر لطغيان الكفار بعبادته لكونه السبب في طغيانهم، وكل من جاوز الحد في تعظيم أو غيره فقد طغى، ومنه قوله تعالى وقال النووي في الأذكار: الحلف بما ذكر حرام تجب التوبة منه، وسبقه إلى ذلك الماوردي وغيره ولم يتعرضوا لوجوب قول لا إله إلا الله وهو ظاهر الخبر وبه جزم ابن درباس في شرح المهذب. وقال البغوي في شرح السنة تبعا للخطابي: في هذا الحديث دليل على أن لا كفارة على من حلف بغير الإسلام وإن أثم به، لكن تلزمه التوبة لأنه صلى الله عليه وسلم أمره بكلمة التوحيد فأشار إلى أن عقوبته تختص بذنبه ولم يوجب عليه في ماله شيئا، وإنما أمره بالتوحيد لأن الحلف باللات والعزى يضاهي الكفار فأمره أن يتدارك بالتوحيد. وقال الطيبي: الحكمة في ذكر القمار بعد الحلف باللات أن من حلف باللات وافق الكفار في حلفهم فأمر بالتوحيد، ومن دعا إلى المقامرة وافقهم في لعبهم فأمر بكفارة ذلك بالتصدق. قال: وفي الحديث أن من دعا إلى اللعب فكفارته أن يتصدق، ويتأكد ذلك في حق من لعب بطريق الأولى. وقال النووي: فيه أن من عزم على المعصية حتى استقر ذلك في قلبه أو تكلم بلسانه أنه تكتبه عليه الحفظة. كذا قال، وفي أخذ هذا الحكم من هذا الدليل وقفة. *3* الشرح: قوله (باب من حلف على الشيء وإن لم يحلف) بضم أوله وتشديد اللام، تقدم قريبا في " باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم " أمثلة كثيرة لذلك وهي ظاهرة في ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَكَانَ يَلْبَسُهُ فَيَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ فَصَنَعَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتِمَ وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ الشرح: حديث ابن عمر في لبس النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الذهب وفيه " فرمى به ثم قال: والله لا ألبسه أبدا " وقد تقدم شرحه مستوفي في أواخر كتاب اللباس. وقد أطلق بعض الشافعية أن اليمين بغير استحلاف تكره فيما لم يكن طاعة، والأولى أن يعبر بما فيه مصلحة. قال ابن المنير: مقصود الترجمة أن يخرج مثل هذا من قوله تعالى *3* وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى الْكُفْرِ الشرح: قوله (باب من حلف بملة سوى الإسلام) الملة بكسر الميم وتشديد اللام الدين والشريعة، وهي نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الملل من أهل الكتاب كاليهودية والنصرانية ومن لحق بهم من المجوسية والصابئة وأهل الأوثان والدهرية والمعطلة وعبدة الشياطين والملائكة وغيرهم. ولم يجزم المصنف بالحكم هل يكفر الحالف بذلك أو لا، لكن تصرفه يقتضي أن لا يكفر بذلك لأنه علق حديث " من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله " ولم ينسبه إلى الكفر وتمام الاحتجاج أن يقول لكونه اقتصر على الأمر بقول لا إله إلا الله، ولو كان ذلك يقتضي الكفر لأمره بتمام الشهادتين، والتحقيق في المسألة التفصيل الآتي، وقد وصل الحديث المذكور في الباب الذي قبله وأورده في كتاب الأدب في " باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا " وقدمت الكلام عليه هناك. قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال أكفر بالله ونحو ذلك إن فعلت ثم فعل فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار: لا كفارة عليه ولا يكون كافرا إلا إن أضمر ذلك بقلبه. وقال الأوزاعي والثوري والحنفية وأحمد وإسحاق: هو يمين، وعليه الكفارة. قال ابن المنذر: والأول أصح لقوله " من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله " ولم يذكر كفارة، زاد غيره: ولذا قال " من حلف بملة غيره الإسلام فهو كما قال " فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترئ أحد عليه. ونقل أبو الحسن بن القصار من المالكية عن الحنفية أنهم احتجوا لإيجاب الكفارة بأن في اليمين الامتناع من الفعل وتضمن كلامه بما ذكر تعظيما للإسلام، وتعقب ذلك بأنهم قالوا فيمن قال وحق الإسلام إذا حنث لا تجب عليه كفارة فأسقطوا الكفارة إذا صرح بتعظيم الإسلام وأثبتوها إذا لم يصرح. الحديث: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ الشرح: قوله (حدثنا معلى بن أسد حدثنا وهيب) تقدم في " باب من أكفر أخاه " عن موسى بن إسماعيل عن وهيب كالذي هنا، وقيل ذلك في " باب ما ينهى من السباب واللعن " من كتاب الأدب أيضا من طريق على بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير بسنده بزيادة " وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك " وسياقه أتم من سياق غيره فإن مداره في الكتب الستة وغيرها على أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك، ورواه عن أبي قلابة خالد الحذاء ويحيى ابن أبي كثير وأيوب فأخرجه المصنف في الجنائز من رواية يزيد بن زريع عن خالد الحذاء فاقتصر على خصلتين: الأولى من قتل نفسه بحديدة، وأخرجه مسلم من طريق الثوري عن خالد ومن طريق شعبة عن أيوب كذلك، وأشرت إلى رواية على بن المبارك عن يحيى وأنه ذكر فيه خمس خصال، الأربع المذكورات في الباب والخامسة التي أشرت إليها، وأخرجه مسلم من طريق هشام الدستوائي عن يحيى فذكر خصلة النذر ولعن المؤمن كقتله ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة ولم يذكر الخصلتين الباقيتين وزاد بدلهما " ومن حلف على يمين صبر فاجرة، ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة " فإذا ضم بعض هذه الخصال إلى بعض اجتمع منها تسعة، وتقدم الكلام على قوله ولعن المؤمن كقتله هناك، والكلام على قوله " ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله " في " باب من أكفر أخاه " ووقع في رواية علي بن المبارك " ومن قذف " بدل " رمى " وهو بمعناه. وأما قوله " ومن حلف بغير ملة الإسلام " فوقع في رواية علي بن المبارك " من حلف على ملة غير الإسلام " وفي رواية مسلم من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال " قال ابن دقيق العيد: الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله والله والرحمن، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كقولهم من حلف بالطلاق فالمراد تعليق الطلاق وأطلق عليه الحلف لمشابهته باليمين في اقتضاء الحث والمنع، وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني لقوله " كاذبا متعمدا " والكذب يدخل القضية الإخبارية التي يقع مقتضاها تارة ولا يقع أخرى، وهذا بخلاف قولنا والله وما أشهد فليس الإخبار بها عن أمر خارجي بل هي لإنشاء القسم فتكون صورة الحلف هنا على وجهين: أحدهما أن يتعلق بالمستقبل كقوله إن فعل كذا فهو يهودي، والثاني يتعلق بالماضي كقوله إن كان فعل كذا فهو يهودي، وقد يتعلق بهذا من لم ير فيه الكفارة لكونه لم يذكر فيه كفارة بل جعل المرتب على كذبه قوله " فهو كما قال " قال ابن دقيق العيد: ولا يكفر في صورة الماضي إلا إن قصد التعظيم، وفيه خلاف عند الحنفية لكونه يتخير معنى فصار كما لو قال هو يهودي، ومنهم من قال: إن كان لا يعلم أنه يمين لم يكفر وإن كان يعلم أنه يكفر بالحنث به كفر لكونه رضى بالكفر حين أقدم على الفعل. وقال بعض الشافعية: ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبا، والتحقيق التفصيل فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر وإن قصد حقيقة التعليق فينظر فإن كان أراد أن يكون متصفا بذلك كفر لأن إرادة الكفر كفر وإن أراد البعد عن ذلك لم يكفر، لكن هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيها؟ الثاني هو المشهور. وقوله "كاذبا متعمدا " قال عياض: تفرد بزيادتها سفيان الثوري وهي زيادة حسنة يستفاد منها أن الحالف المتعمد إن كان مطمئن القلب بالإيمان وهو كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لم يكفر، وإن قاله معتقدا لليمين بتلك الملة لكونها حقا كفر، وإن قالها لمجرد التعظيم لها احتمل. قلت: وينقدح بأن يقال إن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النسخ لم يكفر أيضا. ودعواه أن سفيان تفرد بها إن أراد بالنسبة لرواية مسلم فعسى فإنه أخرجه من طريق شعبة عن أيوب وسفيان عن خالد الحذاء جميعا عن أبي قلابة وبين أن لفظ " متعمدا " لسفيان، ولم ينفرد بها سفيان فقد تقدم في كتاب الجنائز من طريق يزيد بن ذريع عن خالد، وكذا أخرجها النسائي من طريق محمد بن أبي عدي عن خالد، ولهذه الخصلة في حديث ثابت بن الضحاك شاهد من حديث بريدة أخرجه النسائي وصححه من طريق الحسين عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه " من قال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالما " يعني إذا حلف بذلك، وهو يؤيد التفصيل الماضي، ويخصص بهذا عموم الحديث الماضي، ويحتمل أن يكون المراد بهذا الكلام التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم وكأنه قال فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال، ونظيره " من ترك الصلاة فقد كفر " أي استوجب عقوبة من كفر. وقال ابن المنذر: قوله " فهو كما قال " ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر بل المراد أنه كاذب ككذب المعظم لتلك الجهة. قوله (ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم) في رواية علي بن المبارك " ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة " وقوله بشيء أعم مما وقع في رواية مسلم " بحديدة " ولمسلم من حديث أبي هريرة " ومن تحسى سما " قال ابن دقيق العيد: هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم لأن نفسه ليست ملكا له مطلقا بل هي لله تعالى فلا يتصرف فيها الأيمان بما أذن له فيه. قيل وفيه حجة لمن أوجب المماثلة في القصاص خلافا لمن خصصه بالمحدد، ورده ابن دقيق العيد بأن أحكام الله لا تقاس بأفعاله، فليس كل ما ذكر أنه يفعله في الآخرة يشرع لعباده في الدنيا كالتحريق بالنار مثلا وسقى الحميم الذي يقطع به الأمعاء، وحاصله أنه يستدل للمماثلة في القصاص بغير هذا الحديث وقد استدلوا بقوله تعالى *3* وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ مَلَكًا فَأَتَى الْأَبْرَصَ فَقَالَ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فَلَا بَلَاغَ لِي إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الشرح: قوله (باب لا يقول ما شاء الله وشئت، وهل يقول أنا بالله ثم بك) ؟ هكذا بت الحكم في الصورة الأولى وتوقفت في الصورة الثانية، وسببه أنها وإن كانت وقعت في حديث الباب الذي أورده مختصرا وساقه مطولا فيما مضى لكن إنما وقع ذلك من كلام الملك على سبيل الامتحان للمقول له فتطرق إليه الاحتمال. قوله (وقال عمرو بن عاصم إلخ) وصله في ذكر بني إسرائيل فقال " حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا عمرو بن عاصم " وساقه بطوله. وقد يتمسك به من يقول أنه قد يطلق " قال " لبعض شيوخه فيما لم يسمعه منه ويكون بينهما واسطة، كأنه أشار بالصورة الأولى إلى ما أخرجه النسائي في كتاب الأيمان والنذور وصححه من طريق عبد الله بن يسار بتحتانية ومهملة عن قتيلة بقاف ومثناة فوقانية والتصغير امرأة من جهينة " أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت " وأخرج النسائي وابن ماجه أيضا وأحد من رواية يزيد بن الأصم عن ابن عباس رفعه " إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت " وفي أول حديث النسائي قصة وهي عند أحمد ولفظه " أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت، فقال له: أجعلتني والله عدلا، لا بل ما شاء الله وحده " وأخرج أحمد والنسائي وابن ماجه أيضا عن حذيفة " أن رجلا من المسلمين رأى رجلا من أهل الكتاب في المنام فقال: نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشاء محمد، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد " وفي رواية النسائي أن الراوي لذلك هو حذيفة الراوي، هذه رواية ابن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة. وقال أبو عوانة عن عبد الملك عن ربعي عن الطفيل بن سخيرة أخي عائشة بنحوه أخرجه ابن ماجه أيضا، وهكذا قال حماد بن سلمة عند أحمد وشعبة وعبد الله بن إدريس عن عبد الملك، وهو الذي رجحه الحفاظ وقالوا: إن ابن عيينة وهم في قوله عن حذيفة والله أعلم. وحكى ابن التين عن أبي جعفر الداودي قال: ليس في الحديث الذي ذكره نهى عن القول المذكور في الترجمة، وقد قال الله تعالى وأخرج عبد الرزاق عن إبراهيم النخعي أنه كان لا يرى بأسا أن يقول " ما شاء الله ثم شئت " وكان يكره " أعوذ بالله وبك " ويجيز " أعوذ بالله ثم بك " وهو مطابق لحديث ابن عباس وغيره مما أشرت إليه. (تنبيه) : مناسبة إدخال هذه الترجمة في كتاب الأيمان من جهة ذكر الحلف في بعض طرق حديث ابن عباس كما ذكرت، ومن جهة أنه قد يتخيل جواز اليمين بالله ثم بغيره على وزان ما وقع في قوله " أنا بالله ثم بك " فأشار إلى أن النهي ثبت عن التشريك وورد بصورة الترتيب على لسان الملك وذلك فيما عدا الأيمان، أما اليمين بغير ذلك فثبت النهي عنها صريحا فلا يلحق بها ما ورد في غيرها والله أعلم. *3* وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ فِي الرُّؤْيَا قَالَ لَا تُقْسِمْ الشرح: قوله (باب قول الله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم) قال الراغب وغيره: القسم بفتحتين الحلف، وأصله من القسامة وهي الأيمان التي على أولياء المقتول، ثم استعمل في كل حلف. قال الراغب ومعنى (جهد أيمانكم) أنهم اجتهدوا في حلفهم فأتوا به على أبلغ ما في وسعهم انتهى، وهذا يدفع ما فهمه المهلب فيما حكاه ابن بطال عنه من هذه الآية أنها تدل على أن الحلف بالله أكبر الأيمان لأن الجهد أكبر المشقة ففهم من قوله جهد أيمانهم أن اليمين بالله غاية الجهد، والذي قاله الراغب أظهر، وقد قال أهل اللغة: إن القسامة مأخوذة من القسمة لأن الأيمان تقسم على أولياء القتيل، وسيأتي مزيد لذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله (وقال ابن عباس قال أبو بكر: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت في الرؤيا، قال: لا تقسم) هذا طرف مختصر من الحديث الطويل الآتي في كتاب التعبير من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس " أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف من السمن والعسل " الحديث وفيه تعبير أبي بكر لها وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم " فأخبرني يا رسول الله أصبت أم أخطأت؟ قال: أصبت بعضا أو أخطأت بعضا، قال فوالله إلخ " فقوله هنا " في الرؤيا " من كلام المصنف إشارة إلى ما اختصره من الحديث؛ وتقديره في قصة الرؤيا التي رآها الرجل وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فعبرها أبو بكر إلخ؛ وسيأتي شرحه هناك، والغرض منه هنا قوله " لا تقسم " موضع قوله لا تحلف فأشار إلى الرد على من قال إن من قال أقسمت انعقدت يمينا ولأنه لو قال بدل أقسمت حلفت لم تنعقد اتفاقا إلا إن نوى اليمين أو قصد الإخبار بأنه سبق منه حلف، وأيضا فقد أمر صلى الله عليه وسلم بإبرار القسم، فلو كان أقسمت يمينا لأبر أبا بكر حين قالها، ومن ثم أورد حديث البراء عقبه، ولهذا أورد حديث حارثة آخر الباب " لو أقسم على الله لأبره " إشارة إلى أنها لو كانت يمينا لكان أبو بكر أحق بأن يبر قسمه لأنه رأس أهل الجنة من هذه الأمة، وأما حديث أسامة في قصة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أنها أقسمت حقيقة، فقد تقدم في الجنائز بلفظ " تقسم عليه ليأتينها " والله أعلم. قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال أقسمت بالله أو أقسمت مجردة فقال قوم هي يمين وإن لم يقصد، وممن روى ذلك عنه ابن عمر وابن عباس وبه قال النخعي والثوري والكوفيون. وقال الأكثرون لا تكون يمينا إلا أن ينوي. وقال مالك: أقسمت بالله يمينا وأقسمت مجردة لا تكون يمينا إلا إن نوى. وقال الإمام الشافعي: المجردة لا تكون يمينا أصلا ولو نوى، وأقسمت بالله إن نوى تكون يمينا. وقال إسحاق: لا تكون يمينا أصلا. وعن أحمد كالأول وعنه كالثاني وعنه إن قال قسما بالله فيمين جزما لان التقدير أقسمت بالله قسما، وكذا لو قال إلية بالله، قال ابن المنير في الحاشية: مقصود البخاري الرد على من لم يجعل القسم بصيغة أقسمت يمينا: قال: فذكر الآية وقد قرن فيها القسم بالله ثم بين أن هذا الاقتران ليس شرطا بالأحاديث فإن فيها أن هذه الصيغة بمجردها تكون يمينا تتصف بالبر وبالندب إلى إبرارها من غير الخلف، ثم ذكر من فروع هذه المسألة: لو قال أقسم بالله عليك لتفعلن فقال نعم هل يلزمه يمين بقوله نعم وتجب الكفارة إن لم يفعل انتهى، وفيما قال نظر، والذي يظهر أن مراد البخاري أن يقيد ما أطلق في الأحاديث بما قيد به في الآية والعلم عند الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ الشرح: قوله (بإبرار المقسم) أي بفعل ما أراده الحالف ليصير بذلك بارا، وهذا أيضا طرف من حديث أورده المصنف مطولا ومختصرا في مواضع بينتها وذكرت كيفية ما أخرجها في كتاب اللباس وفي أول كتاب الاستئذان، واختلف في ضبط السين فالمشهور أنها بالكسر وضم أوله على أنه اسم فاعل، وقيل بفتحها أي الأقسام، والمصدر قد يأتي للمفعول مثل أدخلته مدخلا بمعنى الإدخال وكذا أخرجته. وأشعث المذكور في السند هو ابن أبي الشعثاء وسفيان في الطريق الأولى هو الثوري. الحديث: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أُسَامَةَ أَنَّ بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَسَعْدٌ وَأُبَيٌّ أَنَّ ابْنِي قَدْ احْتُضِرَ فَاشْهَدْنَا فَأَرْسَلَ يَقْرَأُ السَّلَامَ وَيَقُولُ إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَتَحْتَسِبْ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ فَلَمَّا قَعَدَ رُفِعَ إِلَيْهِ فَأَقْعَدَهُ فِي حَجْرِهِ وَنَفْسُ الصَّبِيِّ جُئِّثُ فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هَذِهِ رَحْمَةٌ يَضَعُهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ الشرح: حديث أسامة وهو ابن زيد بن حارثة الصحابي ابن الصحابي مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو عثمان الراوي عنه هو عبد الرحمن بن مل النهدي. قوله (إن ابنة) في رواية الكشميهني " إن بنتا " وقد تقدم اسمها في كتاب الجنائز. قوله (ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة) فيه تجريد لأن الظاهر أن يقول وأنا معه، وقد تقدم في الطب بلفظ " أرسلت إليه وهو معه". قوله (وسعد) هو معطوف على أسامة، ومضى في الجنائز بلفظ " ومعه سعد بن عبادة " قوله (وأبي أو أبي) قال الكرماني أحدهما بلفظ المضاف إلى المتكلم والآخر بضم أوله وفتح الموحدة وتشديد الياء يريد ابن كعب، قال ويحتمل أن يكون بلفظ المضاف مكررا كأنه قال ومعه سعد وأبي أو أبي فقط. قلت: والأول هو المعتمد، والثاني وإن احتمل لكنه خلاف الواقع. فقد تقدم في الجنائز بلفظ ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال. والذي تحرر لي أن الشك في هذا من شعبة، فإنه لم يقع في رواية غيره ممن رواه عن عاصم. قوله (تقعقع) أي تضطرب وتتحرك، وقيل معناه كلما صار إلى حال لم يلبث أن يصير إلى غيرها وتلك حالة المحتضر. قوله (ما هذا) قيل هو استفهام عن الحكم لا للإنكار، وقد تقدمت سائر مباحث هذا الحديث في كتاب الجنائز. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ الشرح: حديث أبي هريرة " إلا تحلة القسم " بفتح التاء وكسر المهملة وتشديد اللام أي تحليلها، والمعنى أن النار لا تمس من مات له ثلاثة من الولد فصبر إلا بقدر الورود، قال ابن التين وغيره: والإشارة بذلك إلى قوله تعالى الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ وَأَهْلِ النَّارِ كُلُّ جَوَّاظٍ عُتُلٍّ مُسْتَكْبِرٍ الشرح: حديث حارثة بن وهب وهو بالحاء المهملة وبالمثلثة. قوله (ألا أدلكم على أهل الجنة إلخ) قال الداودي: المراد أن كلا من الصنفين في محله المذكور لا أن كلا من الدارين لا يدخلها إلا من كان من الصنفين فكأنه قيل كل ضعيف في الجنة وكل جواظ في النار، ولا يلزم أن لا يدخلها غيرهما. قوله (كل ضعيف) قال أبو البقاء: كل بالرفع لا غير، والتقدير هم كل ضعيف إلخ، والمراد بالضعيف الفقير والمستضعف بفتح العين المهملة، وغلط من كسرها لأن المراد أن الناس يستضعفونه ويقهرونه ويحقرونه، وذكر الحاكم في " علوم الحديث " أن ابن خزيمة سئل من المراد بالضعيف هنا؟ فقال: هو الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة في اليوم عشرين مرة إلى خمسين مرة. وقال الكرماني: يجوز الكسر ويراد به المتواضع المتذلل، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفي في تفسير سورة ن، ونقل ابن التين عن الداودي أن الجواظ هو الكثير اللحم الغليظ الرقبة. وقوله "لو أقسم على الله لأبره " أي لو حلف بمينا على شيء أن يقع طمعا في كرم الله بإبراره لأبره وأوقعه لأجله، وقيل هو كناية عن إجابة دعائه. *3* الشرح: قوله (باب إذا قال أشهد بالله أو شهدت بالله) أي هل يكون حالفا؟ وقد اختلف في ذلك فقال الحنفية والحنابلة نعم وهو قول النخعي والثوري، والراجح عند الحنابلة ولو لم يقل بالله أنه يمين، وهو قول ربيعة والأوزاعي، وعند الشافعية لا يكون يمينا إلا إن أضاف إليه بالله، ومع ذلك فالراجح أنه كناية فيحتاج إلى القصد وهو نص الشافعي في المختصر لأنها تحتمل أشهد بأمر الله أو بوحدانية الله، وهذا قول الجمهور، وعن مالك كالروايات الثلاث، واحتج من أطلق بأنه ثبت في العرف والشرع في الأيمان، قال الله تعالى وقال أبو عبيد: الشاهد يمين الحالف، فمن قال أشهد فليس بيمين ومن قال أشهد بالله فهو يمين، وقد قرأ الضحاك (اتخذوا إيمانهم) بكسر الهمزة وهي تدفع قول من حمل الشهادة على اليمين، وإلى ذلك أشار البخاري حيث أورد حديث الباب " تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته " فإنه ظاهر في المغايرة بين الشهادة والحلف. الحديث: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَنْهَوْنَا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ الشرح: حديث الباب " تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته " وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الشهادات، وشيبان في السند هو ابن عبد الرحمن ومنصور هو ابن المعتمر وإبراهيم هو النخعي وعبيدة بفتح أوله هو ابن عمرو وعبد الله هو ابن مسعود. قوله (تسبق شهادة أحدهم يمينه) قال الطحاوي أي يكثرون الأيمان في كل شيء حتى يصير لهم عادة فيحلف أحدهم حيث لا يراد منه اليمين ومن قبل أن يستحلف. وقال غيره: المراد يحلف على تصديق شهادته قبل أدائها أو بعده، وهذا إذا صدر من الشاهد قبل الحكم سقطت شهادته. وقيل المراد التسرع إلى الشهادة واليمين والحرص على ذلك حتى لا يدري بأيهما يبدأ لقلة مبالاته. قوله (قال إبراهيم) هو النخعي، وهو موصول بالسند المتقدم. قوله (وكان أصحابنا) يعني مشايخه ومن يصلح منه اتباع قوله، وتقدم في الشهادات بلفظ " يضربوننا " بدل " ينهونا". قوله (أن نحلف بالشهادة والعهد) أي أن يقول أحدنا أشهد بالله أو على عهد الله، قاله ابن عبد البر وتقدم البحث فيه في كتاب الشهادات. *3* الشرح: قوله (باب عهد الله عز وجل) أي قول القائل: على عهد الله لأفعلن كذا. قال الراغب: العهد حفظ الشيء ومراعاته، ومن ثم قيل للوثيقة عهدة. ويطلق عهد الله على ما فطر عليه عباده من الإيمان به عند أخذ الميثاق، ويراد به أيضا ما أمر به في الكتاب والسنة مؤكدا وما التزمه المرء من قبل نفسه كالنذر. قلت: وللعهد معان أخرى غير هذه كالأمان والوفاء والوصية واليمين ورعاية الحرمة والمعرفة واللقاء عن قرب والزمان والذمة وبعضها قد يتداخل والله أعلم. وقال ابن المنذر: من حلف بالعهد فحنث لزمه الكفارة سواء نوى أم لا عند مالك والأوزاعي والكوفيين، وبه قال الحسن والشعبي وطاوس وغيرهم. قلت: وبه قال أحمد. وقال عطاء والشافعي وإسحاق وأبو عبيد: لا تكون يمينا إلا إذ نوى، وقد تقدم في أوائل كتاب الإيمان النقل عن الشافعي فيمن قال أمانة الله مثله، وأغرب إمام الحرمين فادعى اتفاق العلماء على ذلك، ولعله أراد من الشافعية ومع ذلك فالخلاف ثابت عندهم كما حكاه الماوردي وغيره عن أبي إسحاق المروزي واحتج للمذهب بأن عهد الله يستعمل في وصيته لعباده باتباع أوامره وغير ذلك كما ذكر فلا يحمل على اليمين إلا بالقصد. وقال الشافعي: إذا قال على عهد الله احتمل أن يريد معهوده وهو وصيته فيصير كقوله على فرض الله أي مفروضة فلا يكون يمينا، لأن اليمين لا تنعقد بمحدث، فإن نوى بقوله عهد الله اليمين انعقدت. وقال ابن المنذر: قد قال الله تعالى وقال ابن التين: هذا لفظ يستعمل على خمسة أوجه: الأول على عهد الله، والثاني وعهد الله، الثالث عهد الله، الرابع أعاهد الله، الخامس على العهد. وقد طرد بعضهم ذلك في الجميع وفصل بعضهم فقال: لا شيء في ذلك إلا إن قال على عهد الله ونحوها وإلا فليست بيمين نوى أو لم ينو. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ يَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَوْ قَالَ أَخِيهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ قَالَ سُلَيْمَانُ فِي حَدِيثِهِ فَمَرَّ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ قَالُوا لَهُ فَقَالَ الْأَشْعَثُ نَزَلَتْ فِيَّ وَفِي صَاحِبٍ لِي فِي بِئْرٍ كَانَتْ بَيْنَنَا الشرح: حديث عبد الله وهو ابن مسعود والأشعث بن قيس في نزول قوله تعالى *3* وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ وَقَالَ أَيُّوبُ وَعِزَّتِكَ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ الشرح: قوله (باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلامه) كذا لأبي ذر، ولغيره " وكلماته " وفي هذه الترجمة عطف العام على الخاص والخاص على العام لأن الصفات أعم من العزة والكلام، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر " باب لا تحلفوا بآبائكم " إلى أن الأيمان تنقسم إلى صريح وكناية ومتردد بينهما وهو الصفات وأنه اختلف هل يلتحق بالصريح فلا يحتاج إلى قصد أو لا فيحتاج، والراجح أن صفات الذات منها يلتحق بالصريح فلا تنفع معها التورية إذا تعلق به حق آدمي، وصفات الفعل تلتحق بالكناية، فعزة الله من صفات الذات وكذا جلاله وعظمته. قال الشافعي فيما أخرجه البيهقي في المعرفة: من قال وحق الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله يريد اليمين أو لا يريده فهي يمين انتهى. وقال غيره: والقدرة تحتمل صفة الذات فتكون اليمين صريحة وتحتمل إرادة المقدور فتكون كناية كقول من يتعجب من الشيء: انظر إلى قدرة الله، وكذا العلم كقوله: اللهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك. قوله (وقال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أعوذ بعزتك) هذا طرف من حديث وصله المؤلف في التوحيد من طريق يحيى بن يعمر عن ابن عباس وسيأتي شرحه هناك، ووجه الاستدلال به على الحلف بعزة الله أنه وإن كان بلفظ الدعاء لكنه لا يستعاذ إلا بالله أو بصفة من صفات ذاته، وخفي هذا على ابن التين فقاله: ليس فيه جواز الحلف بالصفة كما بوب عليه. ثم وجدت في حاشية ابن المنير ما نصه، قوله أعوذ بعزتك دعاء وليس بقسم، ولكنه لما كان المقرر أنه لا يستعاذ إلا بالقديم ثبت بهذا أن العزة من الصفات القديمة لا من صفة الفعل فتنعقد اليمين بها. قوله (وقال أبو هريرة إلخ) وفيه " وقال أبو سعيد قال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله: لك ذلك وعشرة أمثاله " وهو مختصر من الحديث الطويل في صفة الحشر وقد تقدم شرحه مستوفي في أواخر الرقاق، والغرض منها قول الرجل لا وعزتك لا أسألك غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك مقررا له فيكون حجة في ذلك. قوله (وقال أيوب) عليه السلام (وعزتك لا غنى لي عن بركتك) كذا للأكثر، ووقع لأبي ذر عن غير الكشميهني " لا غناء " بفتح أوله والمد، والأول أولى فإن معنى الغناء بالمد الكفاية يقال ما عند فلان غناء أي لا يغتنى به، وهو أيضا طرف من حديث تقدم في كتاب الطهارة من رواية أبي هريرة وأوله " أن أيوب كان يغتسل فخر عليه جراد من ذهب " الحديث، ووجه الدلالة منه أن أيوب عليه السلام لا يحلف إلا بالله وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عنه وأقره. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ الشرح: قوله (شيبان) هو ابن عبد الرحمن. قوله (فتقول قط قط وعزتك) تقدم شرحه مستوفي في تفسير سورة ق والقول فيه ما تقدم، وحكى الداودي عن بعض المفسرين أنه قال في قول جهنم قوله (رواه شعبة عن قتادة) وصل روايته في تفسير ق وأشار بذلك إلى أن الرواية الموصولة عن أنس بالعنعنة، لكن شعبة ما كان يأخذ عن شيوخه الذين ذكر عنهم التدليس إلا ما صرحوا فيه بالتحديث. (تنبيه) : لمح المصنف بهذه الترجمة إلى رد ما جاء عن ابن مسعود من الزجر عن الحلف بعزة الله، ففي ترجمة عون بن عبد الله بن عتبة من " الحلية لأبي نعيم " من طريق عبد الله بن رجاء عن المسعودي عن عون قال " قال عبد الله: لا تحلفوا بحلف الشيطان أن يقول أحدكم وعزة الله ولكن قولوا كما قال الله تعالى رب العزة " انتهى. وفي المسعودي ضعف، وعون عن عبد الله منقطع، وسيأتي الكلام على العزة في باب مفرد من كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. *3* قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَعَمْرُكَ لَعَيْشُكَ الشرح: قوله (باب قول الرجل لعمر الله) أي هل يكون يمينا، وهو مبني على تفسير " لعمر " ولذلك ذكر أثر ابن عباس، وقد تقدم في تفسير سورة الحجر وأن ابن أبي حاتم وصله. وأخرج أيضا عن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قوله تعالى (لعمرك) أي حياتك، قال الراغب: العمر بالضم وبالفتح واحد ولكن خص الحلف بالثاني قال الشاعر " عمرك الله كيف يلتقيان " أي سألت الله أن يطيل عمرك. وقال أبو القاسم الزجاج: العمر الحياة، فمن قال لعمر الله كأنه حلف ببقاء الله، واللام للتوكيد والخبر محذوف أي ما أقسم به، ومن ثم قال المالكية والحنفية: تنعقد بها اليمين لأن بقاء الله من صفة ذاته. وعن مالك لا يعجبني الحلف بذلك. وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مصنفه عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: كانت يمين عثمان بن أبي العاص لعمري. وقال الشافعي وإسحاق: لا تكون يمينا إلا بالنية لأنه يطلق على العلم وعلى الحق، وقد يراد بالعلم المعلوم وبالحق ما أوجبه الله. وعن أحمد كالمذهبين، والراجح عنه كالشافعي وأجابوا عن الآية بأن لله أن يقسم من خلقه بما شاء وليس ذلك لهم لثبوت النهي عن الحلف بغير الله. وقد عد الأئمة ذلك في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا فإن اللام ليست من أدوات القسم لأنها محصورة في الواو والباء والتاء كما تقدم بيانه في " باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم". الحديث: حَدَّثَنَا الْأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ وَفِيهِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ الشرح: الحديث طرف من حديث الإفك والغرض منه قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة " لعمر الله لنقتلنه " وقد مضى شرح الحديث مستوفى في تفسير النور، وتقدم في أواخر الرقاق في الحديث الطويل من رواية لقيط بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لعمر إلهك " وكررها، وهو عند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند وعند غيره. *3* الشرح: قوله (باب لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم الآية) كذا لأبي ذر، ولغيره بدل قوله الآية وأخرج الطبري من طريق طاوس عن ابن عباس أن يحلف وهو غضبان، ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يحرم ما أحل الله له، وهذا يعارضه الخبر الثابت عن ابن عباس كما تقدم في موضعه أنه تجب فيه كفارة يمين، وقيل هو أن يدعو على نفسه إن فعل كذا ثم يفعله وهذا هو يمين المعصية وسيأتي البحث فيه بعد ثلاثة أبواب. قال ابن العربي: القول بأن لغو اليمين هو المعصية باطل لأن الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة والحالف على فعل، المعصية تنعقد يمينه ويقال له لا تفعل وكفر عن يمينك فإن خالف وأقدم على الفعل أثم وبر في يمينه. قلت: الذي قال ذلك قال إنها في الثانية لا تنعقد أصلا فلذلك قال إنها لغو، قال ابن العربي ومن قال إنها يمين الغضب يرده ما ثبت في الأحاديث يعني مما ذكر في الباب وغيرها، ومن قال دعاء الإنسان على نفسه إن فعل كذا أو لم يفعل فاللغو إنما هو في طريق الكفارة وهي تنعقد وقد يؤاخذ بها لثبوت النهي عن دعاء الإنسان على نفسه ومن قال إنها اليمين التي تكفر فلا يتعلق به فإن الله رفع المؤاخذة عن اللغو مطلقا فلا إثم فيه ولا كفارة فكيف يفسر اللغو بما فيه الكفارة وثبوت الكفارة يقتضي وجود المؤاخذة حتى أن من وجب عليه الكفارة فخالف عوقب. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ قَالَ قَالَتْ أُنْزِلَتْ فِي قَوْلِهِ لَا وَاللَّهِ بَلَى وَاللَّهِ الشرح: قوله (يحيى) هو القطان، قال ابن عبد البر تفرد يحيى القطان عن هشام بذكر السبب في نزول الآية قلت: قد صرح بعضهم برفعه عن عائشة أخرجه أبو داود من رواية إبراهيم الصائغ عن عطاء عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لغو اليمين هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله " وأشار أبو داود إلى أنه اختلف على عطاء وعلى إبراهيم في رفعه ووقفه، وقد أخرج ابن أبي عاصم من طريق الزبيدي وابن وهب في جامعه عن يونس وعبد الرزاق في مصنفه عن معمر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة: لغو اليمين ما كان في المراء والهزل والمراجعة في الحديث الذي كان يعقد عليه القلب، وهذا موقوف ورواية يونس تقارب الزبيدي، ولفظ معمر أنه القوم يتدارؤن يقول أحدهم لا والله وبلى والله وكلا والله ولا يقصد الحلف وليس مخالفا للأول وهو المعتمد. وأخرج ابن وهب عن الثقة عن الزهري بهذا السند هو الذي يحلف على الشيء لا يريد به إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه، وهذا يوافق القول الثاني، لكنه ضعيف من أجل هذا المبهم شاذ لمخالفة من هو أوثق منه وأكثر عددا. *3* وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَقَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ الشرح: قوله (باب إذا حنث ناسيا في الأيمان) أي هل تجب عليه الكفارة أو لا؟ قوله (وقول الله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) كذا لأبي ذر ولغيره " وليس " بثبوت الواو في أوله، وقد تمسك بهذه الآية من قال بعدم حنث من لم يتعمد وفعل المحلوف عليه ناسيا أو مكرها، ووجه بأنه لا ينسب فعله إليه شرعا لرفع حكمه عنه بهذه الآية فكأنه لم يفعله. قوله قلت: ويساعده أيضا حديث عبد الله بن عمرو وحديث ابن عباس في تقديم بعض النسك على بعض فإنه لم يأمر فيه بالإعادة بل عذر فاعله بجهل الحكم. وقال غيره: بل أورد البخاري أحاديث الباب على الاختلاف إشارة إلى أنها أصول أدلة الفريقين ليستنبط كل أحد منها ما يوافق مذهبه كما صنع في حديث جابر في قصة جمله فإنه أورد الطرق على اختلافها وان كان قد بين في الآخر أن إسناد الاشتراط أصح، وكذا قول الشعبي في قدر الثمن؛ وبهذا جزم ابن المنير في الحاشية فقال: أورد الأحاديث المتجاذبة ليفيد الناظر مظان النظر، ومن ثم لم يذكر الحكم في الترجمة بل أفاد مراد الحكم والأصول التي تصلح أن يقاس عليها، وهو أكثر إفادة من قول المجتهد في المسألة قولان وإن كان لذلك فائدة أيضا انتهى ملخصا. والذي يظهر لي أن البخاري يقول بعدم الكفارة مطلقا، وتوجيه الدلالة من الأحاديث التي ساقها ممكن. وأما ما يخالف ظاهر ذلك فالجواب عنه ممكن: فمنها الدية في قتل الخطأ ولولا أن حذيفة أسقطها لكانت له المطالبة بها، والجواب أنها من خطاب الوضع وليس الكلام فيه. ومنها إبدال الأضحية التي ذبحت قبل الوقت، والجواب أنها من جنس الذي قبله. ومنها حديث المسيء صلاته فإنه لو لم يعذره بالجهل لما أقره على إتمام الصلاة المختلة، لكنه لما رجا أنه يتفطن لما عابه عليه أمره بالإعادة فلما علم أنه فعل ذلك عن جهل بالحكم علمه، وليس في ذلك متمسك لمن قال بوجوب الكفارة في صورة النسيان، وأيضا فالصلاة إنما تتقوم بالأركان فكل ركن اختل منها اختلت به ما لم يتدارك، وإنما الذي يناسب ما لو فعل ما يبطل الصلاة بعده أو تكلم به فإنها لا تبطل عند الجمهور كما دل عليه حديث أبي هريرة في الباب " من أكل أو شرب ناسيا " قال ابن التين: أجرى البخاري قوله تعالى وقال غيره: هي في قصة مخصوصة وهي ما إذا قال الرجل يا بني وليس هو ابنه، وقيل إذا أتى امرأته حائضا وهو لا يعلم، قال: والدليل على عدم التعميم أن الرجل إذا قتل خطأ تلزمه الدية وإذا أتلف مال غيره خطأ فإنه يلزمه انتهى. وانفصل غيره بأن المتلفات من خطاب الوضع والذي يتعلق بالآية ما يدخل في خطاب التكليف، ولو سلم أن الآية نزلت فيما ذكر لم يمنع ذلك من الاستدلال بعمومها، وقد أجمعوا على العمل بعمومها في سقوط الإثم، وقد اختلف السلف في ذلك على مذاهب ثالثها التفرقة بين الطلاق والعتاق فتجب فيه الكفارة مع الجهل والنسيان بخلاف غيرهما من الأيمان فلا تجب، وهذا قول عن الإمام الشافعي ورواية عن أحمد، والراجح عند الشافعية التسوية بين الجميع في عدم الوجوب، وعن الحنابلة عكسه وهو قول المالكية والحنفية. وقال ابن المنذر: كان أحمد يوقع الحنث في النسيان في الطلاق حسب ويقف عما سوى ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ الشرح: قوله (زرارة بن أوفى) هو قاضي البصرة مات وهو ساجد أورده الترمذي وكان ذلك سنة ثلاث وتسعين. قوله (عن أبي هريرة يرفعه) سبق في العتق من رواية سفيان عن مسعر بلفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بدل قوله هنا يرفعه، وكذا لمسلم من طريق وكيع. وللنسائي والإسماعيلي من طريق عبد الله بن إدريس كلاهما عن مسعر بلفظ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقال الكرماني: إنما قال يرفعه ليكون أعم من أن يكون سمعه منه أو من صحابي آخر سمعه منه. قلت: ولا اختصاص لذلك بهذه الصيغة بل مثله في قوله قال وعن، وإنما يرتفع الاحتمال إذا قال سمعت ونحوها، وذكر الإسماعيلي أن وكيعا رواه عن مسعر فلم يرفعه قال والذي رفعه ثقة فيجب المصير إليه. قوله (عن أبي هريرة) لم أقف على التصريح بسماع زرارة لهذا الحديث من أبي هريرة، لكنه لم يوصف بالتدليس فيحمل على السماع. وذكر الإسماعيلي أن الفرات بن خالد أدخل بين زرارة وبين أبي هريرة في هذا الإسناد رجلا من بني عامر، وهو خطأ فإن زرارة من بني عامر فكأنه كان فيه عن زرارة رجل من بني عامر فظنه آخر أبهم وليس كذلك. قوله (لأمتي) في رواية هشام عن قتادة " تجاوز عن أمتي". قوله (عما وسوست أو حدثت به أنفسها) في رواية هشام " ما حدثت به أنفسها " ولم يتردد، وكذا في رواية سعيد وأبي عوانة عند مسلم. وفي رواية ابن عيينة " ما وسوست بها صدورها " ولم يتردد أيضا، وضبط أنفسها بالنصب للأكثر ولبعضهم بالرفع. وقال الطحاوي بالثاني وبه جزم أهل اللغة يريدون بغير اختيارها كقوله تعالى قوله (ما لم تعمل به أو تكلم) في رواية عبد الله بن إدريس أو تتكلم به، قال الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث ذكر النسيان، وإنما فيه ذكر ما خطر على قلب الإنسان. قلت: مراد البخاري إلحاق ما يترتب على النسيان بالتجاوز لأن النسيان من متعلقات عمل القلب. وقال الكرماني: قاس الخطأ والنسيان على الوسوسة، فكما أنها لا اعتبار لها عند عدم التوطن فكذا الناسي والمخطئ لا توطين لهما. وقد وقع في رواية هشام بن عمار عن ابن عيينة عن مسعر في هذا الحديث بعد قوله أو تكلم به " وما استكرهوا عليه " وهذه الزيادة منكرة من هذا الوجه وإنما تعرف من رواية الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس بلفظ " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وقد أخرجه ابن ماجه عقب حديث أبي هريرة من رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، والحديث عند هشام بن عمار عن الوليد فلعله دخل له بعض حديث في حديث، وقد رواه عن ابن عيينة الحميدي وهو أعرف أصحاب ابن عيينة بحديثه، وتقدم في العتق عنه بدون هذه الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية زياد بن أيوب وابن المقري وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي كلهم عن سفيان بدون هذه الزيادة. قال الكرماني: فيه أن الوجود الذهني لا أثر له وإنما الاعتبار بالوجود القولي في القوليات والعملي في العمليات، وقد احتج به من لا يرى المؤاخذة بما وقع في النفس ولو عزم عليه، وانفصل من قال يؤاخذ بالعزم بأنه نوع من العمل يعني عمل القلب. قلت: وظاهر الحديث أن المراد بالعمل عمل الجوارح لأن المفهوم من لفظ " ما لم يعمل " يشعر بأن كل شيء في الصدر لا يؤاخذ به سواء توطن به أم لم يتوطن، وقد تقدم البحث في ذلك في أواخر الرقاق في الكلام على حديث " من هم بسيئة لا تكتب عليه". وفي الحديث إشارة إلى عظيم قدر الأمة المحمدية لأجل نبيها صلى الله عليه وسلم لقوله " تجاوز لي " وفيه إشعار باختصاصها بذلك، بل صرح بعضهم بأنه كان حكم الناسي كالعامد في الإثم وإن ذلك من الإصر الذي كان على من قبلنا، ويؤيده ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال " لما نزلت وأخرجه من حديث ابن عباس بنحوه وفيه قال قد فعلت. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَوْ مُحَمَّدٌ عَنْهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ كُنْتُ أَحْسِبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ يَوْمَئِذٍ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ الشرح: قوله (حدثنا عثمان بن الهيثم أو محمد عنه) وقع مثل هذا في " باب الذريرة " في أواخر كتاب اللباس، وتقدم الكلام عليه هناك. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن يحيى عن عثمان بن الهيثم به. قوله (كنت احسب يا رسول الله كذا وكذا قبل كذا وكذا) في رواية الإسماعيلي " إني كنت أحسب أن كذا قبل كذا". قوله (هؤلاء الثلاث) قد كنت أظن ذلك خاصا بهذه الرواية، وأن البخاري أشار بذلك إلى ما في الحديث الذي يليه فإنه فيه الحلق والنحر والرمي، لكن وجدته في رواية الإسماعيلي بالإبهام كما أشرت إليه، وكذا أخرجه مسلم من رواية عيسى بن يونس ومحمد بن بكر كلاهما عن ابن جريج مثل رواية عثمان بن الهيثم سواء، إلا إن ابن بكر لم يقل " لهؤلاء الثلاث " ومن رواية يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج بلفظ " حلقت قبل أن أنحر ونحرت قبل أن أرمي " فالظاهر أن الإشارة المذكورة من ابن جريج، وقد أخرجه الشيخان من رواية مالك عن ابن شهاب شيخ ابن جريج فيه مفسرا كما تقدم في كتاب الحج مع شرحه. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ لَا حَرَجَ قَالَ آخَرُ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ لَا حَرَجَ قَالَ آخَرُ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ لَا حَرَجَ الشرح: حديث ابن عباس في ذلك. وقد تقدم بسنده ومتنه مشروحا في كتاب الحج. الحديث: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ سَلَّمَ فَقَالَ وَعَلَيْكَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ فَأَعْلِمْنِي قَالَ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا الشرح: حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته، وقد تقدم شرحه في كتاب الصلاة. قوله (حدثني إسحاق بن منصور حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله بن عمر) هو العمرى، وسعيد هو المقبري، وقد تقدم في كتاب الاستئذان بهذا السند سواء لكن فيه عبد الله بن نمير بدل أبي أسامة، وفي بعض سياقهما اختلاف بينته هناك، فكأن لإسحاق بن منصور فيه شيخين. وقد أخرجه الترمذي عن إسحاق بن منصور عن عبد الله بن نمير وحده، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة وعبد الله بن نمير جميعا، وله طرق عن هذين عند مسلم وغيره. الحديث: حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ فَصَرَخَ إِبْلِيسُ أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ فَقَالَ أَبِي أَبِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ مَا انْحَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ عُرْوَةُ فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ الشرح: حديث حذيفة في قصة قتل أبي اليمان يوم أحد، وقد تقدم شرحه مستوفى في أواخر المناقب وفي غزوة أحد، وقوله في آخره " بقية خير " بالإضافة للأكثر أي استمر الخير فيه، ووقع في: رواية الكشميهني " بقية " بالتنوين وسقط عنده لفظ " خير " وعليها شرح الكرماني فقال: أي بقية حزن وتحسر من قتل أبيه بذلك الوجه، وهو وهم سبقه غيره إليه، والصواب أن المراد أنه حصل له خير بقوله للمسلمين. الذين قتلوا أباه خطأ " عفا الله عنكم " واستمر ذلك الخير فيه إلى أن مات. الحديث: حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَوْفٌ عَنْ خِلَاسٍ وَمُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ الشرح: حديث أبي هريرة " من أكل ناسيا وهو صائم فليتم صومه " الحديث؛ وقد تقدم شرحه في " باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا " من كتاب الصيام، وعوف في السند هو الأعرابي، وخلاس بكسر المعجمة وتخفيف اللام بعدها مهملة وهو ابن عمرو، ومحمد هو ابن سيرين، والبخاري لا يخرج لخلاس إلا مقرونا. ومما ينبه عليه هنا أن المزي في " الأطراف " ذكر هذا الحديث في ترجمة خلاس عن أبي هريرة فقال " خلاس في الصيام عن يوسف بن موسى " فوهم في ذلك وإنما هو في الأيمان والنذور، ولم يورده في الصيام من طريق خلاس أصلا. وقال ابن المنير في الحاشية: أوجب مالك الحنث على الناسي ولم يخالف ذلك في ظاهر الأمر إلا في مسألة واحدة وهي من حلف بالطلاق ليصومن غدا فأكل ناسيا بعد أن بيت الصيام من الليل، فقال مالك: لا شيء عليه، فاختلف عنه فقيل لا قضاء عليه وقيل لا حنث ولا قضاء وهو الراجح، أما عدم القضاء فلأنه لم يتعمد إبطال العبادة، وأما عدم الحنث فهو على تقدير صحة الصوم لأنه المحلوف: عليه، وقد صحح الشارع صومه، فإذا صح صومه لم يقع عليه حنث. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ انْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ فَكَبَّرَ وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَسَلَّمَ الشرح: حديث عبد الله بن بحينة في سجود السهو قبل السلام لترك التشهد الأول، وقد تقدم في أبواب سجود السهو من أواخر كتاب الصلاة مع شرحه. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا قَالَ مَنْصُورٌ لَا أَدْرِي إِبْرَاهِيمُ وَهِمَ أَمْ عَلْقَمَةُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالُوا صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ لِمَنْ لَا يَدْرِي زَادَ فِي صَلَاتِهِ أَمْ نَقَصَ فَيَتَحَرَّى الصَّوَابَ فَيُتِمُّ مَا بَقِيَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ الشرح: حديث ابن مسعود في سجود السهو بعد السلام لزيادة ركعة في الصلاة، وقد تقدم شرحه أيضا هناك عقب حديث ابن بحينة، وقوله هنا " حدثنا إسحاق بن إبراهيم " هو المعروف بابن راهويه، وقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من مسنده، وقوله سمع عبد العزيز أي إنه سمع ولفظة " إنه " يسقطونها في الخط أحيانا، وعبد العزيز المذكور هو العمى بفتح المهملة والتثقيل، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وعلقمة هو ابن قيس. وقوله فيه " فزاد أو نقص " قال منصور لا أدري إبراهيم وهم أم علقمة كذا أطلق " وهم " موضع " شك " وتوجيهه أن الشك ينشأ عن النسيان إذ لو كان ذكرا لأحد الأمرين لما وقع له التردد، يقال وهم في كذا إذا غلط فيه ووهم إلى كذا إذا ذهب وهمه إليه، وقد تقدم في أبواب القبلة من رواية جرير عن منصور قال " قال إبراهيم لا أدري زاد أو نقص " فجزم بأن إبراهيم هو الذي تردد، وهذا يدل على أن منصورا حين حدث عبد العزيز كان مترددا هل علقمة قال ذلك أم إبراهيم، وحين حدث جريرا كان جازما بإبراهيم. وقال الكرماني لفظ " أقصرت " صريح في أنه نقص ولكنه وهم من الراوي والصواب ما تقدم في الصلاة بلفظ " أحدث في الصلاة شيء " وقد تقدمت مباحا هذا الحديث هناك أيضا ولله الحمد. الحديث: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا قَالَ كَانَتْ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا الشرح: الحديث ذكر فيه طرفا يسيرا من حديث أبي بن كعب في قصة موسى والخضر وقوله قلت لابن عباس فقال حدثنا أبي بن كعب هكذا حذف مقول سعيد بن جبير، وقد ذكره في تفسير الكهف بلفظ " قلت لابن عباس إن نوفا البكالي " فذكر قصة، فقال ابن عباس رادا عليه " حدثنا أبي بن كعب إلخ " فحذفها البخاري هنا كما حذف أكثر الحديث، إلى أن قال " لا تؤاخذني". قوله (إنه سمع رسول الله يقول قال لا تؤاخذني بما نسيت) فيه حذف تقديره: يقول في تفسير قوله تعالى قوله (كانت الأولى من موسى نسيانا) يعني أنه كان عند إنكاره خرق السفينة كان ناسيا لما شرط عليه الخضر في قوله فإن قيل فالقصة الثانية لم تكن إلا عمدا فما الحامل له على خلف الشرط؟ قلنا: لأنه في الأولى كان يتوقع هلاك أهل السفينة فبادر للإنكار فكان ما كان واعتذر بالنسيان وقدر الله سلامتهم، وفي الثانية كان قتل الغلام فيها محققا فلم يصبر على الإنكار فأنكر ذاكرا للشرط عامدا لإخلافه تقديما لحكم الشرع، ولذلك لم يعتذر بالنسيان وإنما أراد أن يجرب نفسه في الثالثة لأنها الحد المبين غالبا لما يخفى من الأمور. فإن قيل: فهل كانت الثالثة عمدا أو نسيانا؟ قلنا: يظهر أنها كانت نسيانا وإنما وأخذه صاحبه بشرطه الذي شرطه على نفسه من المفارقة في الثالثة، وبذلك جزم ابن التين، وإنما لم يقل إنها كانت عمدا استبعادا لأن يقع من موسى عليه السلام إنكار أمر مشروع وهو الإحسان لمن أساء والله أعلم. الحديث: قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَكَانَ عِنْدَهُمْ ضَيْفٌ لَهُمْ فَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ لِيَأْكُلَ ضَيْفُهُمْ فَذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الذَّبْحَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي عَنَاقٌ جَذَعٌ عَنَاقُ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ فَكَانَ ابْنُ عَوْنٍ يَقِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ وَيُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَيَقِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَيَقُولُ لَا أَدْرِي أَبَلَغَتْ الرُّخْصَةُ غَيْرَهُ أَمْ لَا رَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: حديث البراء وحديث أنس في تقديم صلاة العيد على الذبح، وقد سبق شرحهما مستوفى في كتاب الأضاحي. قوله (كتب إلي محمد بن بشار) لم تقع هذه الصيغة للبخاري في صحيحه عن أحد من مشايخه إلا في هذا الموضع، وقد أخرج بصيغة المكاتبة فيه أشياء كثيرة لكن من رواية التابعي عن الصحابي أو من رواية غير التابعي عن التابعي ونحو ذلك، ومحمد بن بشار هذا هو المعروف ببندار، وقد أكثر عنه البخاري، وكأنه لم يسمع منه هذا الحديث فرواه عنه بالمكاتبة. وقد أخرج أصل الحديث من عدة طرق أخرى موصولة كما تقدم في العيدين وغيره، وقد أخرجه الإسماعيلي عن عبد الله بن محمد بن سنان قال: قرأت على بندار فذكره، وأخرجه أبو نعيم من رواية حسين بن محمد بن حماد قال حدثنا محمد بن بشار بندار. قوله (قال قال البراء بن عازب وكان عندهم ضيف) في رواية الإسماعيلي " كان عندهم ضيف " بغير واو، وظاهر السياق أن القصة وقعت للبراء، لكن المشهور أنها وقعت لخاله أبي بردة بن نيار كما تقدم في كتاب الأضاحي من طريق زبيد عن الشعبي عن البراء فذكر الحديث وفيه " فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال إن عندي جذعة " الحديث، ومن طريق مطرف عن الشعبي عن البراء " ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة". قوله (قبل أن يرجع) في رواية السرخسي والمستملي " قبل أن يرجعهم " والمراد قبل أن يرجع إليهم. قوله (فأمره أن يعيد الذبح) قال ابن التين: رويناه بكسر الذال وهو ما يذبح وبالفتح وهو مصدر ذبحت. قوله (فقال يا رسول الله) في رواية الإسماعيلي " قال البراء يا رسول الله " وهذا صريح في أن القصة وقعت للبراء، فلولا اتحاد المخرج لأمكن التعدد، لكن القصة متحدة والسند متحد من رواية الشعبي عن البراء والاختلاف من الرواة عن الشعبي، فكأنه وقع في هذه الرواية اختصار وحذف، ويحتمل أن يكون البراء شارك خاله في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن القصة فنسبت كلها إليه تجوزا. قال الكرماني: كان البراء وخاله أبو بردة أهل بيت واحد فنسب القصة تارة لخاله وتارة لنفسه انتهى، والمتكلم في القصة الواحدة أحدهما فتكون نسبة القول للآخر مجازية والله أعلم. قوله (خير من شاتى لحم) تقدم البحث فيه هناك أيضا. قوله (وكان ابن عون) هو عبد الله راوي الحديث عن الشعبي، وهو موصول بالسند المذكور. قوله (يقف في هذا المكان عن حديث الشعبي) أي يترك تكملته. قوله (ويحدث عن محمد بن سيرين) أي عن أنس. قوله (بمثل هذا الحديث) أي حديث الشعبي عن البراء. قوله (ويقف في هذا المكان) أي في حديث ابن سيرين أيضا. قوله (ويقول لا أدري إلخ) يأتي بيانه في الذي بعده. قوله (رواه أيوب عن ابن سيرين عن أنس) وصله المصنف في أوائل الأضاحي من رواية إسماعيل وهو المعروف بابن علية عن أيوب بهذا السند ولفظه " من ذبح قبل الصلاة فليعد، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن هذا يوم يشتهي فيه اللحم - وذكر جيرانه - وعندي جذعة خير من شاتى لحم، فرخص له في ذلك فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا " وهذا ظاهره في أن الكل من رواية ابن سرين عن أنس، وقد أوضحت ذلك أيضا في كتاب الأضاحي. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَالَ شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ عِيدٍ ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ قَالَ مَنْ ذَبَحَ فَلْيُبَدِّلْ مَكَانَهَا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ الشرح: حديث جندب وهو ابن عبد الله البجلي. فوله (خطب ثم قال من ذبح فليبدل مكانها) تقدم في الأضاحي عن آدم عن شعبة بهذا السند بلفظ " من ذبح قبل أن يصلي فليعد " الحديث وتقدم شرحه هناك أيضا. قال الكرماني: ومناسبة حديثي البراء وجندب للترجمة الإشارة إلى التسوية بين الجاهل بالحكم والناسي. وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ دَخَلًا مَكْرًا وَخِيَانَةً الشرح: قوله (باب اليمين الغموس) بفتح المعجمة وضم الميم الخفيفة وآخره مهملة، قيل سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، فهي فعول بمعنى فاعل، وقيل الأصل في ذلك أنهم كانوا إذا أراد أن يتعاهدوا أحضروا جفنة فجعلوا فيها طيبا أو دما أو رمادا ثم يحلفون عندما يدخلون أيديهم فيها ليتم لهم بذلك المراد من تأكيد ما أرادوا. فسميت تلك اليمين إذا غدر صاحبها غموسا لكونه بالغ في نقض العهد وكأنها على هذا مأخوذة من اليد المغموسة فيكون فعول بمعنى مفعولة. وقال ابن التين: اليمين الغموس التي ينغمس صاحبها في الإثم، ولذلك قال مالك لا كفارة فيها، واحتج أيضا بقوله تعالى قوله (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها الآية) كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة إلى (عظيم) . قوله (دخلا مكرا وخيانة) هو من تفسير قتادة وسعيد بن جبير أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: خيانة وغدرا، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير قال: يعني مكرا وخديعة. وقال الفراء: يعني خيانة. وقال أبو عبيدة: الدخل كل أمر كان على فساد؛ وقال الطبري: معنى الآية لا تجعلوا أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم توفون بالعهد لمن عاهدتموه دخلا أي خديعة وغدرا ليطمئنوا إليكم وأنتم تضمرون لهم الغدر انتهى. ومناسبة ذكر هذه الآية لليمين الغموس ورود الوعيد على من حلف كاذبا متعمدا. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا فِرَاسٌ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ الشرح: قوله (النضر) بفتح النون وسكون المعجمة هو ابن شميل بالمعجمة مصغر، ووقع منسوبا في رواية النسائي، وأخرجه أبو نعيم في " المستخرج " من رواية جعفر بن إسماعيل عن محمد بن مقاتل شيخ البخاري فيه فقال " عن عبد الله بن المبارك عن شعبة " وكأن لابن مقاتل فيه شيخين إن كان حفظه، وفراس بكسر الفاء وتخفيف الراء وآخره سين مهملة. قوله (عن عبد الله بن عمرو) أي ابن العاص. قوله (الكبائر الإشراك بالله) في رواية شيبان عن فواس في أوله " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر " فذكره، ولم أقف على اسم هذا الأعرابي. قوله (الكبائر الإشراك بالله إلخ) ذكر هنا ثلاثة أشياء بعد الشرك وهو العقوق وقتل النفس واليمين الغموس، ورواه غندر عن شعبة بلفظ " الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين أو قال اليمين الغموس شك شعبة " أخرجه أحمد عنه هكذا، وكذا أخرجه المصنف في أوائل الديات والترمذي جميعا عن بندار عن غندر وعلقه البخاري هناك، ووصله الإسماعيلي من رواية معاذ بن معاذ عن شعبة بلفظ " الكبائر الإشراك بالله واليمين الغموس وعقوق الوالدين أو قال قتل النفس " ووقع في رواية شيبان التي أشرت إليها " الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين، قال ثم ماذا؟ قال اليمين الغموس " ولم يذكر قتل النفس، وزاد في رواية شيبان " قلت وما اليمين الغموس؟ قال: التي تقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كذب " والقائل قلت هو عبد الله بن عمرو راوي الخبر والمجيب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون السائل من دون عبد الله بن عمرو والمجيب هو عبد الله أو من دونه، ويؤيد كونه مرفوعا حديث ابن مسعود والأشعث المذكور في الباب الذي بعده، ثم وقفت على تعيين القائل " قلت وما اليمين الغموس " وعلى تعيين المسئول فوجدت الحديث في النوع الثالث من القسم الثاني من صحيح ابن حبان وهو قسم النواهي، وأخرجه عن النضر بن محمد عن محمد بن عثمان العجلي عن عبيد الله بن موسى بالسند الذي أخرجه به البخاري فقال في آخره بعد قوله ثم اليمين الغموس " قلت لعامر ما اليمين الغموس إلخ " فظهر أن السائل عن ذلك فراس والمسئول الشعبي وهو عامر فلله الحمد على ما أنعم ثم لله الحمد ثم لله الحمد، فإني لم أر من تحرر له ذلك من الشراح، حتى أن الإسماعيلي وأبا نعيم لم يخرجاه في هذا الباب من رواية شيبان بل اقتصر على رواية شعبة، وسيأتي عد الكبائر وبيان الاختلاف في ذلك في كتاب الحدود في شرح حديث أبي هريرة " اجتنبوا السبع الموبقات " إن شاء الله تعالى، وقد بينت ضابط الكبيرة والخلاف في ذلك، وأن في الذنوب صغيرا وكبيرا وأكبر، في أوائل كتاب الأدب، وذكرت ما يدل على أن المراد بالكبائر في حديث الباب أكبر الكبائر، وأنه ورد من وجه آخر عند أحمد عن عبد الله بن عمرو بلفظ " من أكبر الكبائر " وأن له شاهدا عند الترمذي عن عبد الله بن أنيس وذكر فيه اليمين الغموس أيضا، واستدل به الجمهور على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها للاتفاق على أن الشرك والعقوق والقتل لا كفارة فيه وإنما كفارتها التوبة منها والتمكين من القصاص في القتل العمد، فكذلك اليمين الغموس حكمها حكم ما ذكرت معه، وأجيب بأن الاستدلال بذلك ضعيف لأن الجمع بين مختلف الأحكام جائز كقوله تعالى وقد طعن ابن حزم في صحة الأثر عن ابن مسعود واحتج بإيجاب الكفارة فيمن تعمد الجماع في صوم رمضان وفيمن أفسد حجه، قال: ولعلهما أعظم إثما من بعض من حلف اليمين الغموس، ثم قال: وقد أوجب المالكية الكفارة على من حلف أن لا يزني ثم زنى ونحو ذلك، ومن حجة الشافعي قوله في الحديث الماضي في أول كتاب الأيمان " فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " فأمر من تعمد الحنث أن يكفر فيؤخذ منه مشروعية الكفارة لمن حلف حانثا.
|